الأدب الإسلامي
سبب
رئيس
(1/3)
بقلم : أديب العربية معالي الشيخ الدكتور عبد العزيز
عبد اللّه الخويطر
الرياض ،
المملكة العربية السعودية
يتطلع
الإِنسان أحيانًا أمام أمر مهم مبهم إلى أكثر من سبب يزيل اللبس، فيفاجأ أن
تفسيرًا واحدًا يكفي لجلاء الغموض، وإزالة اللبس، ولسطوع نور يبين الحقيقة، ويبدد
الظلام، ويتناول الناس قصة تمثل هذا الأمر خير تمثيل: يقولون إنه أثناء إحدى حروب
البلقان بين العثمانيين وأعدائهم، لاحظ أحد الضباط في الميدان أن أحد المدفعية
(الطوبجي) قد سكت مدفعه، وقعد بجانبه واضعًا يده على خده في راحة تامة، يرقب الأفق
أمامه، وقد حمي الوطيس، والمعركة على أشدها، والحاجة إليه وإلى مدفعه متناهية،
فجاء إليه حانقًا، وقال له إذا لم تعطني عشرة أسباب لموقف الخيانة الذي أنت فيه،
فسوف يكون عقابك صارمًا، ولا أقبل منك إلا عشرة أسباب، وما دونها فلا يكفى لعذرك.
فقال
له المدفعي أولاً: نفدت ذخيرتي، وأنا في انتظار الامداد بذخيرة أخرى، ثانيًا.
فقال
له: هذا سبب رئيس يكفي أو (هذا برنجي سبب) كما يعبر العامة، تقليدًا للهجة
التركية، وبهذا تنازل الضابط عن تسعة أعشار مطلوبه، وملأ عينه سبب واحد هو العشر.
وهذا العشر حمل عذر الجرم الذي أدخله الضابط في حدود الخيانة، التي جزاؤها الموت.
واتُّخذت
هذه القصة حجة للناس إذا مروا بموقف مهم معقد، تحتاج عُقَده إلى مجهود كبير
لفكِّها، وتَطَلَّب الأمر تبريرًا يتناسب مع حجم ما ظهر من غموض وإبهام، وبدأ
المفسر بإعطاء أول عذر أو تبرير، أوقفه السامع مكتفيًا وردد كلمةً «هذا
برنجي سبب»
ويكفي .
والناس في إعطاء الأسباب يختلفون؛ لأن هذا
يحكمه ناحيةً نفسيةً دقيقةً، فإذا كانت الأسباب العديدة منها القوي، ومنها الضعيف،
فبعض الناس يبدأ بالقوي، ويأتي مثل الضربة المزلزلة، وبمجرد سماعها يسلم المقابل
الذي طلب التعليل، ولا يطلب المزيد، وبعضهم يبدأ بأضعف الأسباب، وكأنه يلين السامع
تدريجًا بسبب بعد سبب، ثم يأتي بالسبب الرئيس في آخر الأمر، فيكون قاضيًا على سامع
قد هيئ؛ وهنا يخرج صاحب هذه الطريقة عن موضوعنا، ويدخل حيّزًا آخر.
وفي
التراث قصص عديدة ينطبق عليها أمر «السبب
الرئيس»
ويكون الجواب كافيًا شافيًا، مشتملاً على ما يقنع، وعلى ما لا يتطلب المزيد.
ومن
الأمثلة على ذلك القصة الآتية:
«كان
لسعيد بن خالد قصر بإزاء قصر عبد الملك، فقال له عبد الملك:
إن
لي إليك حاجةً.
فقال:
مَقْضِيَّة.
قال:
إجعل لي قصرك.
قال:
هو لك.
فقال
عبد الملك: فلك خمس حاجات مقضية.
فقال
سعيد: أولها أن ترد عليّ قصري.
قال:
فعلت. فما بعد ذلك؟
قال:
أنت في حلٍّ من الأربع».(1)
لم يحتج سعيد بن خالد للخمس حاجات المقضية،
فقد أصبح بالحاجة الأولى حائزًا على غرضه، وأصبح كل الصيد في جوف الفرا، ولقد شعر
سعيد بأنه اكتفى بأن سَلِم على قصره، ولم يكن له مطمع في أمر آخر، فلذة استرداد
القصر أقنعته، وملأت نفسه بما لم تعد تنظر لأمر آخر.
وقد
لا يكتفي الإِنسان بالسبب الرئيس، ويحاول أن ينقضه، ويتسلل إلى غايته عن طريقه،
ولكنه يجد صخرةً عاتيةً، تقف أمامه شامخة معيقة، فيضطر إلى التسليم، ويكتفي بالسبب
الرئيس بِرضىً وارتياح، والقصة الآتية تري شيئًا من هذا:
«دعا عبد الملك بن مروان رجلاً إلى غدائه فقال له:
«تغديت.
قال
عبد الملك: ما أقبح الرجل أن يأكل حتى لا تكون فيه بقية للطعام!
فقال
يا أمير المؤمنين، بي فضل، ولكني كرهت أن آكل فأصير إلى ما استقبح أمير المؤمنين»(2).
هذا
سبب رئيس واحد، لم يزاحمه آخر؛ ولكنه كان منزويًا عن عبد الملك، مما استدرجه أن
يزل هذه الزلة، التي نبهه إليها جليسه العاقل، الملتزم بأصول ما آمن به عبد الملك،
ودعا إليه، وأنّب من أجله؛ وإنه وإن كان حاضرًا في ذهن عبد الملك مثل هذه القاعدة
الذهبية، فإن الإلتزام بها من قبل جليسه كان مراعَى كل المراعاة، مما جعله يفضي
برده سريعًا وبديهةً، مما يدل على التمسك به، إيمانًا، وإدراكاً لمنفعة. وإنها
لقاعدة حسنة، يسير عليها الإِنسان. ومن حسن حظ هذا الرجل أن عبد الملك، وهو
الفقيه، لم يقل له: إجلس على المائدة ولا تأكل، كما كان يفعل بعض الصحابة
والتابعين، فقد كانوا يجيبون الدعوة ولا يأكلون.
ومن
حسن حظ هذا الرجل أن عبد الملك لم يكن يجوز له أن يقول: إن الاستجابة لدعوة
الحكام، والجلوس معهم على المائدة، إنما هو شرف، وليس للشبع، وقمع الجوع، كما
قالها أحد جلساء أحد الخلفاء.
والجلوس
على مائدة العظيم شرف لا يغلبه إلا الجلوس على مائدة من هو أعظم، وهو الذي إذا دعا
فالاستجابة لدعوته شرف يتبعه أجر عظيم، وثواب عميم، إنها دعوة الله – سبحانه وتعالى – إلى الصيام، وقد جاءت لأعرابي تمسك
بهذه الدعوة، واستجاب لها، ولم يفرط فيها لأغراء دنيوي، فيه طعام شهي، ولا لمراعاة
مركز الداعي، وهو الحجاج، وقصته مع الأعرابي كما يلي:
«دعا
الحجاج إلى طعامه في طريق الحج بدويًا فقال:
أنا
صائم.
قال:
أفطر وتصوم غدًا.
قال:
إن ضمنت لي البقاء إلى غد.
قال:
إنه طعام طيب.
قال:
إنك لم تطيبه ولا الخباز، ولكن طيبته العافية»(3).
إن
القصص التي تخترع على الحجاج كثيرة، والتي تنقل إليه من غيره في غير صالحه مثلها،
وقصصه مع الأعراب في الصحراء منفردًا، حيث لا يعرفونه، متعددة، ويتطرق إليها الشك؛
لأن الحجاج مطلوب، ولا يتوقع أن يعطي أعداءه فرصة لاقتناصه، ومع هذا فالقصة طريفة،
وتدخل –
سواء كانت حقيقةً أو خيالاً –
في نطاق حديثنا هذا، ولِتُقبل فسوف نتصور أنه دعاه وحراسه عنده.
والأعرابي
وفق في رده الأول على الحجاج، وكان مؤدبًا لم يقل كما قال غيره: «دعاني
من هو خير منك»،
حتى لا يغضب الحجاج باطنًا، وإن سكت ظاهرًا وإنما قال «إنه
صائم»،
وهي جملة بسيطة معتادة، وأكد هذا الأدب عندما قال: «إن
ضمنت لي البقاء غدًا».
أما قوله: «لم
تطيبه ولا الخباز، ولكن طيبته العافية»
فخرجت قليلاً عن خط الأدب الذي بدأ به، وكان المتوقع أن يقول: ما عند الله أطيب؛
لأن الإِقرار لله بالفضل في هذا المقام يقبل؛ ولكن هذا أيضًا وإن قبله الحجاج
ظاهرًا، فقد يستفزه باطنًا، ولعل هذه الجملة، إن صحت القصة كلها، زيدت من قبل
القَاصّ عِظَةً وحكمةً.
وهنا
موقف مماثل في بعض جوانبه لموقف الرجل الذي دعاه عبد الملك على مائدته، وفي بعض
جوانبه متماش مع موقف الأعرابي مع الحجاج، ولكن النتيجة جاءت مختلفةً تمامًا،
ومرتكز التعليل مختلف، وحصن الإِغراء في قوته وضعفه مختلف أيضًا، والقصة كما يلي:
«دخل
جنادة بن أبي أمية على معاوية، وهو يأكل، فدعاه إلى الأكل، فقال: أنا صائم.
فلم
تزل الألوان تختلف بين يدي معاوية حتى جيء بجدي محنوذ سمين، فقال جنادة:
ليأمر
أمير المؤمنين بماء أغسل يدي، وآكل من هذا الجدي.
فقال
له: ألم تقل إنك صائم!
قال:
بلى؛ ولكني على رد يوم أقدر مني على رد مثل هذا الجدي.
فضحك
معاوية، وأمر له بماء، فغسل يده، وأكل معه»(4).
هذا
سبب قدمه جنادة أمامه حجة، ولا ندري هل كان جنادة صائمًا، أم تظاهر بالصيام، وهل
كان صيامه قضاءً أو احتسابًا؛ وشكنا في أنه كان صائمًا يأتي من أن الصيام عبادة
شاقة نوعًا ما، ولا يقدم عليها إلا من إيمانه عميق مثل الأعرابي في صحرائه
القاحلة، فإذا أقبل عليه فإنه يقبل عن إيمان لا يزعزعه جدي حنيذ، ولا سفرة «حانّة
رانّة»
بأنواع الطعام وأطايبه.
وقد
يأتي الجواب الرئيس بصورة عملية، واضحة جلية، فيختم سلسلة من الوهم، أو خطأ
التصور، مؤكدًا أن السبب كان هناك مختفيًا خلف الأمر، ومستترًا تحته، وبرز عندما
آن بروزه، فظهر فجأةً معلنًا عن نفسه، وقد يأتي بصورة مأساة كما حدث في إحدى القصص
التي جرت حوادثها كالآتي:
«لاحظ
رجل أن آخر قد ثبت وجهه تجاه زوجته، ولا بد أنه يلبس هذه النظارة السوداء ليخفي
خلفها نظراته النافذة إليها، وزاد من غيظه أنه هذا الرجل يأتي بحركات مريبة، تؤكد
سوء قصده، فهو حينًا يمسح شعر رأسه بيده، يمررها بطريقة مستفزة، وأحيانًا يضع يده
على خده بطريقة توحي بأن له قصدًا غير شريف، ويؤكد هذا بحركة أخرى، وهي وضعه يده
على فمه.
لقد
تيقن الزوج من وقاحة هذا الرجل، وقصده السيء، وأن الأمر دخل مرحلة التحدّي
والإذلال، فقام من مكانه غاضبًا مزمجرًا، وأخذ بتلابيب الرجل، وعند أول صفعة على
وجهه سقطت النظارة السوداء، فرأى ما تحتها من عينين، ويا لهول ما رأى، لقد تبين أن
المتهم أعمى، ويمكن أن نتصور الموقف الحرج للأثنين»؛
المهم إن السبب الرئيس كان هذه المرة عمليًا مؤلماً، وكان كافيًا عن أي سبب آخر في
إزالة اللبس مثلما أزال الجندي العثماني اللبس عنه وعن مدفعه بذاك السبب الرئيس.
*
*
*
الهوامش:
(1)
محاضرات
الأدباء: 215.
(2)
بهجة
المجالس: 3/77.
(3)
ربيع
الأبرار: 2/618.
(4)
بهجة
المجالس: 3/79.
مجلة الداعي
الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، جمادي الثانية 1432هـ = مايو 2011م ، العدد
: 6 ، السنة : 35